يبدو واضحا أن أنقرة قررت التعامل مع ملف ادلب باعتباره قضية حياة أو موت بالنسبة لها. فكل التنازلات التي قدمتها في المرحلة الماضية من خلال اجتماعات آستانة، كانت تتم على أساس أن محافظة ادلب ستكون منطقة نفوذ تركية داخل سوريا. أما اليوم وبعد القرار السوري–الروسي باستعادة كامل المحافظة، واتمام كل الاستعدادات لشن عملية عسكرية كبيرة على المنطقة الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة وتنظيمات متطرفة أبرزها "جبهة النصرة"، استنفرت أنقرة للتصدّي لعملية نزع آخر الأوراق من بين يديها، فلجأت في الأيام الماضية وبعد ظهور عمق الخلاف الروسي-التركي–الايراني في القمة الثلاثيّة التي انعقدت في طهران الى الاستعراض العسكري من خلال ادخال تعزيزات كبيرة الى المحافظة، كما الى التقليب في أوراق الزمن العثماني الغابر.
اذ لفت ما كشفه المرصد السوري لحقوق الانسان مؤخرا عن أن السلطات التركية تحضر سندات تمليك وثبوتيات لملكيتها لـ15 قرية على الأقل في محافظة إدلب منذ التواجد العثماني في المنطقة. وتقع هذه القرى في القطاع الجنوبي الشرقي من ريف إدلب، في المنطقة الممتدة بين معرّة النعمان ومنطقة سنجار، من ضمنها الصيادي والبرسة والخيارة وصراع وصريع.
وقد ظهّرت أنقرة نيتها وضع هذه الأوراق على طاولة المفاوضات من خلال زيادة حشودها العسكريّة حول المناطق التي تدّعي أن ملكيتها تعود للأتراك. اذ أفيد في الساعات القليلة الماضية عن دخول رتل تركي جديد يضم دبابات ومعدات عسكرية ولوجستية، إلى الأراضي السورية عبر معبر كفرلوسين الحدودي شمال إدلب، قبل أن ينقسم إلى قسمين، أحدهما توجه نحو النقطة التركيّة في منطقة مورك بريف حماة الشمالي فيما توجه الثاني نحو نقطة الصرمان بريف مدينة معرّة النعمان.
وتنظر أنقرة الى إدلب على أنها "قضيّة أمن قومي" بالنسبة لها، بحسب الخبير في الشأن السوري وفي الجماعات المتطرفة عبد الرحمن الحاج، لافتا الى أنها "من جهة مقتنعة بأن أي هجوم على المنطقة سيؤدي إلى أزمة لاجئين لم تعد تركيا قادرة على تحمّلها، ومن جهة أخرى تُدرك أن اجتياح إدلب سيفتح الطريق نحو منطقة درع الفرات التي تتخذها أنقرة كدرع لحماية حدودها الجنوبيّة من نشوء كيان يهدد وحدتها وأمنها". ويضيف الحاج: "كما ان منطقة شرق الفرات يمكن أن تنتهي إلى صيغة شبيهة بالحكم الذاتي او الوضع الخاص في إطار اي تسوية، لذلك تعتبر تركيا أنه من الضروري المطالبة بوضع خاص لتلك المناطق لتضمن عدم تهديد أمنها القومي انطلاقا من الحدود الجنوبية".
وفيما يضع الحاج ما يحكى عن "موضوع ملكية تركيا لأراض في ادلب في اطار حملة تشويه الدور التركي في منع اي هجوم عليها، وتصوير أنقرة بصورة المحتل الطامع في الأراضي السورية"، يشير الى تمسك الفصائل المقاتلة والمجالس المحلية والمدنيين بطلب "الحماية التركية"، على اعتبار انهم "يدركون أن المجتمع الدولي اكتفى في كل مرة تعرضت مناطق المعارضة للهجوم بالكلام وعبارات الإدانة، وبالتالي ليس هنالك من امل بالنسبة لهؤلاء سوى بتركيا لحمايتهم من هذا الهجوم، حيث تتقاطع مصالح تركيا القومية مع مصالح السكان والقوى العسكرية في ادلب".
بالمحصلة، يبدو واضحا أن التأخير الذي طرأ على انطلاق معركة ادلب الكبرى مرتبط بالقرار التركي الحاسم بالمواجهة، ما اعاد فتح القنوات الدبلوماسيّة والسياسيّة بمسعى للتوصل لاتفاق ما، بالرغم من عدم وجود أي اشارات لتفاهم اقليمي–دولي يلوح في أفق المحافظة التي يعيش فيها نحو 3 ملايين معظمهم من النازحين اليها.